فصل: النوع الثالث من العهود: عهود الملوك لولاة العهد بالملك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.النوع الثالث من العهود: عهود الملوك لولاة العهد بالملك:

وهو أن يعهد الملك بالملك بعده لمن يختاره من أولاده أو إخوته أو غيرهم من الأقارب أو الأجانب.
ويتعلق النظر به من سبعة أوجه:
الوجه الأول في بيان صحة ذلك:
لما صحت إمارة الاستيلاء إخماداً للفتن، وتنفيذاً للأحكام الشرعية على ما تقدم من كلام الماوردي في النوع الثاني من العهود، اقتضت المصلحة تصحيح العهد بالملك لما فيه من المعنى المتقدم. وقد جرت عهودٌ من الملوك لأبنائهم بالديار المصرية وغيرها بحضرة الجم الغفير من العلماء وأهل الحل والعقد فأمضوا حكم ذلك ولم ينكروه، وذلك منهم دليل الجواز.
فإن قيل: قد تقدم في النوع الثاني من العهد من كلام الماوردي أن وزير التفويض لا يجوز له أن يعهد بالوزارة لغيره، ووزارة التفويض في معنى السلطنة الآن أو قريبةٌ منها على ما تقدم هناك، فالجواب: أنه قد تقدم أن السلطنة الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء، بل السلطان الآن كالمستبد بالأمر، والشوكة مصححة لأصل الولاية فلأن تكون مصححة لفرعها أولى.
الوجه الثاني فيما يكتب في الطرة:
ينبغي أن يكون ما يكتب فيها على نحو ما يكتب في طرر عهود الملوك عن الخلفاء، إلا أنه يزاد فيها: عهد إليه بالملك بعده كما يقال في عهود الخلفاء عن الخلفاء: عهد إليه بالأمر بعده.
وهذه نسخة طرة: هذا عهدٌ شريفٌ جليلٌ قدره، رفيعٌ ذكره، عليٌ فخره، متبلج صبحه، ضويٌ فجره. من السلطان الأعظم الملك الفلاني فلان الدنيا والدين فلان، خلد الله تعالى سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه بالسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطاني الملكي الفلاني، بلغه الله تعالى فيه غاية الآمال، وحقق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال، على ما شرح فيه.
الوجه الثالث في الألقاب التي تكتب في أثناء العهد:
وقد ذكر في التعريف أنه يكتب له: المقام الشريف أو الكريم، أو العالي مجرداً عن الشريف والكريم، ويقتصر فيها على الألقاب المفردة دون المركبة.
قلت: وعلى هذه الطريقة كتب القاضي محي الدين بن عبد الظاهر ألقاب الملك الصالح علي بن المنصور قلاوون في عهده بالسلطنة عن والده المذكور، فقال: ولما كان المقام العالي الولدي السلطاني الملكي الصالحي العمادي.
وعلى نحو من ذلك كتب المشار إليه ألقاب الملك السعيد بركة بن الظاهر بيبرس في عهده بالسلطنة عن والده المذكور، فقال: وخرج أمرنا بأن يكتب هذا التقليد لولدنا الملك السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد إلا أنه قد خالف ذلك فيما كتب به في ألقاب الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون في عهده بالسلطنة عن والده فجمع بين الألقاب المفردة والمركبة، فقال: هذا عهدنا للسيد الأجل الملك الأشرف صلاح الدنيا والدين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين ولم يتعرض في التعريف لحكاية هذا المذهب مع كون كلام ابن عبد الظاهر حجةً يرجع إليه في هذا الفن.
الوجه الرابع: ما يكتب في المستند:
ويتعين أن يكتب فيه حسب المرسوم الشريف لصدوره عن السلطان كما يكتب في التقاليد.
الوجه الخامس: ما يكتب في متن العهد:
وللكتاب فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: أن يفتتح العهد بعد البسملة بلفظ هذا ونحوه على ما تقدم في عهود الملوك عن الخلفاء:
وعلى هذه الطريقة كتب أبو بكر بن القصيرة المغربي الكاتب عن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين سلطان المغرب بولاية عهده لابنه أبي الحسن على ما بيده من الغرب والأندلس في ذي الحجة سنة ستٍ وتسعين وأربعمائة وهو:
كتاب تولية عظيمٍ جسيم، وتوصية حميم كريم، مهدت على الرضا قواعده، وأكدت بيد التقوى معاقده، وأبعدت عن الغواية والهوى مصادره وموارده، أنفذ أمير المسلمين وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، أدام الله أمره وأعز نصره، وأطال فيما يرضيه ويرضى به عنه عمره، غير محابٍ، ولا تاركٍ في النصيحة لله عز وجل ولرسوله موضع ارتيابٍ لمرتاب، للأمير الأجل أبي الحسن علي ابنه المتقبل شيمه وهممه، المتأثل حمله وتحمله، الناشيء في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرف بين يدي متحديه وتهذيبه، أدام الله عزه وتوفيقه وأنهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمم بمن تحت عصاه من المسلمين، وهذا فيمن يخلفه فيهم هدًى للمتقين، ولم ير أن يتركهم سدًى غير مدينين، فاعتام في النصاب الرفيع واختار، واستنصح أولي الرأي منهم ومن غيرهم واستشار، واستضاء بشهاب استخارة الله عز وجل واستنار، فلم يوقع الله بعد طول تأمل، وتراخي مدةٍ، وتمهل، اختياره ولا اختيار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحكمة والتجربة واستشاره إلا عليه، ولا صار به وبهم الاجتهاد إلا إليه، ولا التقى وراد الترائي والتشاور إلا بين يديه، فولاه على استحكام بصيرةٍ وبعد طول مشورةٍ عهده، وأفضى إليه بالأمر والنهي والبسط والقبض بعده، وجعله خليفته في رعايا مسنده وأوطأ عقبه جماهير الرجال، وناطه بمهمات الأموال والأحوال وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة في أحدٍ عصى أو أطاع، ولا ينام به عن حماية من أسهره الحيف والخوف والاضطجاع، ولا يتلهى دون معلن شكوى، ولا يتصمم عن مستصرخٍ لدفاع بلوى، وأن ينتظم أقصى بلاده وأدناها في سلك تدبيره ولا يكون بين القريب والبعيد من رعيته بونٌ في إحصائه وتقديره، ثم دعا أدام الله تأييده لمبايعته من دنا ونأى من المسلمين، فلبوا مسرعين وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة أيمانهم متبرعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة، وإصفاء النيات الصحيحة، وموادة من صاحبه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدخرون في ذلك على حال المكره والمنشط مقدرة، ولا يحتجون في وقتي السخط والرضا بمعذرة، ثم أمر بمخاطبة أهل البلاد لتبايعه كل طائفة في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر صفقة يدها، حتى يستوي في التزام بيعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغائب والشهيد، وتطمئن من أعلام الناس وخيرهم قلوبٌ كانت من تراخي ما انتجز قلقة، ولم تزل ببقية التأخر أرقة، ويشمل الناس السرور والاستبشار، وتتمكن لهم الدعة ويتمهد القرار، وتنشأ في الصلاح لهم آمال، ويستقبلهم جد صاعدٌ وإقبال، والله يبارك لهم فيها بيعة ورضوان، وصفقة رجحان، ودعوة إيمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير.
شهد على أمير المسلمين ناصر الدين، أبي يعقوب يوسف بن تاشفين أدام الله أمره، وأعز نصره بكل ما ذكر عنه من التزام البيعة المنصوصة فوق هذا، وأعطى صفقة يمينه متبرعاً بها، وبالله التوفيق، وذلك بحضرة قرطبة حماها الله تعالى.
الطريقة الثانية: افتتاح العهد بعد البسملة بالحمد الله:
أن يفتتح العهد بعد البسملة بخطبة مفتتحةٍ بالحمد لله، وهي طريقة المصريين:
وعليها اقتصر المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف وعلى هذه الطريقة كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن الظاهر بيبرس عهد ولده الملك السعيد بركة، وهذه نسخته: الحمد لله منمي الغروس، ومبهج النفوس، ومزين سماء المملكة بأحسن الأهلة وأضوإ البدور وأشرق الشموس، الذي شد أزر الإسلام، بملوك يتعاقبون مصالح الأنام، ويتناوبون تدبيرهم كتناوب العينين واليدين في مهمات الأجساد وملمات الأجسام.
نحمده على نعمه التي أيقظت جفن الشكر المتغافي، وأوردت نهل الفضل الصافي، وخولت الآلاء حتى تمسكت الآمال منها بالوعد الوفي وأخذت بالوزن الوافي، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبدٍ كثر الله عدده وعدده، وأحمد أمسه ويومه ويحمد إن شاء الله تعالى غده، ونصلي على سيدنا محمد الذي أطلع الله به نجم الهدى، وألبس المشركين به أردية الردى، وأوضح به مناهج الدين وكانت الطرائق قددا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً دائمةً الله لا تنقضي أبدا.
وبعد فإنا ألهمنا الله من مصالح الأمم، وخولنا من الحرص على مهمات العباد الذي قطع به شأفة الكفر وختم، وأتى به والشرك قد علم كل أحدٍ اشتعال ناره فكان علماً بنارٍ مضرمة لا ناراً على علم، وقدره من رفع الكفر من جميع الجوانب، وقفوهم من كل جهة حتى رماهم بالحتف الواصل والعذاب الواصب، فأصبح الشرك من الإبادة في شرك، والإسلام لا يخشى من قتل ولا يخاف من درك، وثغور الإسلام عالية المبتنى، جانيةٌ ثمار الادخار من هنا ومن هنا، تزاحم بروجها في السماء البروج، وتشاهد الأعداء منها سماءً قد بنيت وزينت ومالها من فروج، وعساكر الملة المحمدية في كل طرف من أطراف الممالك تجول، وفي كل وادٍ تهيم حتى تشعر بالنصر ولكنها تفعل ما تقول: قد دوخت البلاد فقتلت العداء تارةً بالإلمام وتارة بالإدهام، وسلت سيوفها فراعتهم يقظةً بالقراع ونوماً بالأحلام، ترى أنا قد لذ لنا هذا الأمر التذاذ المستطيب، وحسن لدينا موقعه فعكفنا عليه عكوف المستجيد ولبيناه تلبية المستجيب، وجعلنا فيه جميع الآلات والحواس، وتقسمت مباشرته ومؤامرته سائر الزمن حتى غدا أكثر تردداً إلى النفس من الأنفاس، واستنفدنا الساعات في امتطاء المضمر الشموس، وادراع محكم الدلاص التي كأنها وميض برقٍ أو شعاع شموس، وتجريد المرهفات التي جفت لحاظها الأجفان، وجرت فكالمياه وأضرمت فكالنيران، وتفويق السهام التي غدت قسيها مرابعاً نبالها بان، واعتقال السمهرية التي تقرع الأعداء سنها ندماً كلما قرعت هي السنان، إلى غير ذلك، من كل غارةٍ شعواء تسيء للكفار الصباح، وتصدم كالجبال وتسير كالرياح، ومنزلاتٍ كم استلبت من موجود، وكم استنجزت من نصرٍ موعود، وكم مدينةٍ أضحت لها ولكن أخرها الله إلى أجل معدود.
وكانت شجرتنا المباركة قد امتد منها فرعٌ تفرسنا فيه الزيادة والنمو، وتوسمنا منه حسن الجنى المرجو، ورأينا أنه الهلال الذي قد أخذ في ترقي منازل السعود إلى الإبدار، وأنه سرنا الذي صادف مكان الاختبار له مكان الاختيار، فأردنا أن ننصبه في منصب أحلنا الله فسيح غرفه، ونشرفه بما خولنا الله من شرفه، وأن تكون يدنا ويده تلتقطان من ثمره، وجيدنا وجيده يتحليان بجوهره، وأنا نكون للسلطنة الشريفة السمع والبصر، وللملكة المعظمة في التناوب بالإضاءة الشمس والقمر، وأن تصول الأمة منا ومنه بحدين، ويبطشوا من أمرنا وأمره بيدين، وان نرتبه على حسن سياسةٍ تحمد الأمة إن شاء الله تعالى عاقبتها عند الكبر، وتكون الخلاق الملوكية منتشئة منه ومنتشئةً به من الصغر، ونجعل سعي الأمة حمدياً، ونهب لهم منه سلطاناً نصيراً وملكاً سعيداً، ونقوي به عضد الدين ونريش جناح المملكة، وننجح مطلب الأمة بإيالته وكيف لا ينجح مطلب فيه بركة؟.
وخرج أمرنا، لا برح مسعداً ومسعفاً، ولا عدمت الأمة منه خلفاً منبلاً ونواءً محلفاً، بأن يكتب هذا التقليد لولدنا السعيد ناصر الدين بركة خاقان محمد جعل الله مطلع سعده بالإشراق محفوفاً، وأرى الأمة من ميامنه ما يدفع للدهر صرفاً ويحسن بالتدبير تصريفاً بولاية العهد الشريف على قرب البلاد وبعدها، وغورها ونجدها، وقلاعها وثغورها، وبرورها وبحورها، وولايتها وأقطارها ومدنها وأمصارها، وسهلها وجبلها، ومطلعها ومغتلها، وما تحوي أقطاره الأحلام، وما ينسب للدولة القاهرة من يمنٍ وحجازٍ ومصر وغربٍ وسواحل وشامٍ بعد شام، وما يتداخل ذلك من قفار ومن بيدٍ في سائر هذه الجهات، وما يتخللها من نيل وملح وعذبٍ فرات، ومن يسكنها من حقير وجليل، ومن يحلها من صاحب رغاء وثغاء وصليل وصهيل، وجعلنا يده في ذلك كله المبسوطة، وطاعته المشروطة ونواميسه المضبوطة، ولا تدبير ملكٍ كلي إلا بنا أو بولدنا يعمل، ولا سيف ولا رزق إلا بأمرنا هذا يسل وهذا يسأل، ولا دست سلطنةٍ إلا بأحدنا يتوضح منه الإشراق، ولا غصن قلم في روض أمر ونهي إلا ولدينا ولديه تمتد له الأوراق، ولا منبر خطيبٍ إلا باسمنا يميس، ولا وجه درهم ولا دينارٍ إلا بنا يشرق ويكاد تبرجاً لا بهرجاً يتطلع من خلال الكيس.
فليتقلد الولد ما قلدناه من أمور العباد، وليشركنا فيما نباشره من مصالح الثغور والقلاع والبلاد، وسنتعاهد هذا الولد من الوصايا بما سينشأ معه توءماً، ويمتزج بلحمه ودمه حتى يكاد يكون ذلك إلهاماً لا تعلماً، وفي الولد بحمد الله من نفاذ الذهن وصحة التصور ما تتشكل فيه الوصايا أحسن التشكيل، وتظهر صورة الإبانة في صفائه الصقيل، فلذلك استغنينا عن شرحها هاهنا مسرودة، وفيه بحمد الله من حسن الخليقة ما يحقق أنها بشرف الإلهام موجودة، والله لا يعدمنا منه إشفاقاً وبراً، ويجعله أبداً للأمة سنداً وذخراً، إن شاء الله تعالى.
وعلى ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أيضاً عن المنصور قلاوون عهد ولده الملك الأشرف صلاح الدين خليل وهذه نسخته: الحمد لله الذي لم يزل له السمع والطاعة فيما أمر، والرضا والشكر فيما هدم من الأعمار وما عمر، والتفويض في التعويض إن غابت الشمس بقي القمر.
نحمده على أن جعل سلطاننا ثابت الأركان، كل روضة من رياضه ذات أفنان، لا تزعزعه ريحٌ عقيم، ولا يخرجه رزءٌ عظيم عن الرضا والتسليم، ولا يعتبط من حملته كريمٌ إلا ويغتبط من أسرته بكريم، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تزيد قائلها تفويضاً وتجزل له تعويضاً، وتحسن له على الصبر الجميل في كل خطب جليلٍ تحريضاً، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أنزل عليه التسليم: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل}.
والنبي الذي أوضح به المنهاج وبين به السبل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما تجاوبت المحابر والمنابر في البكر والأصل، وما نثرت عقود ونظمت، ونسخت آياتٌ وأحكمت، ونقضت أمورٌ وأبرمت، وما عزمت آراء فتوكلت وتوكلت فعزمت، ورضي الله عن أصحابه الذين منهم من كان للخليفة نعم الخليفة، ومنهم من لم يدرك أحدٌ في تسويد النفس الحصيفة ولا في تبييض الصحيفة مده ولا نصيفه، ومنهم من يسره الله لتجهيز جيش العسرة فعرف الله ورسوله معروفه، ومنهم من علم صالحاً أرضى ربه وأصلح في ذريته الشريفة.
وبعد فإن من ألطاف الله تعالى، واكتناف عواطفه ببلاده، أن جعلنا كلما وهى للملك ركنٌ شديدٌ شيدنا ركناً عوضه، وكلما اعترضت للمقادير جملةٌ بدلنا آيةً مكان آيةٍ وتناسينا تجلداً تلك الجملة المعترضة، فلم يحوج اليوم لأمسه، وإن كان حميداً، ولا الغارس لغرسه، وإن كان ثمره يانعاً وظله مديداً، فأطلعنا في أفق السلطنة كوكباً كان لحسن الاستخلاف معداً، ومن لقبيل المسلمين خيرٌ ثواباً وخيرٌ مرداً، ومن يبشر الله به من الأولياء المتقين وينذر من الأعداء قوماً لداً، ولم يبق إلا به أنسنا بعد ذهاب الذين تحسبهم كالسيف فرداً والذي أمضى حده ضريبةً إلا قد البيض والأبدان قداً، ولا جهز راية كتيبة إلا أغنى غناء الذاهبين وعد الأعداء عداً، ولا بعثه جزع فقال: كم من أخٍ لي صالح إلا لقيه ورعٌ فقال: وخلقت يوم خلقت جلداً، وهو الذي بقواعد السلطنة أدرى وبقوانينها الأعرف، وعلى الرعايا الأعطف وبالرعايا الأرأف، وهو الذي ما قيل لبناء ملك هذا عليه قد وهى إلا وقيل هذا بناءٌ مثله منه أسمى ملكٌ أشرف، والذي ما برح النصر ينتسم من مهاب تأميله الفلاح، ويبتسم ثغره فتتوسم الثغور من مبسمه النجاح، ويقسم نوره على البسيطة فلا مصرٌ من الأمصار إلا وهو يشرئب إلى ملاحظة جبين عهده الوضاح، ويتفتق اشتقاق النعوت فيقول التسلي للتملي: سواءٌ الصالح والصلاح، والذي ما برح لشعار السلطنة إلى توقله وتنقله أتم حنين، وكأنما كوشفت الإمامة العباسية بشرف مسماه فيما تقدم من زمنً سلف ومن حين، فسمت ووسمت باسمه أكابر الملوك وأخاير السلاطين، فخوطب كلٌ منهم مجازاً لا كهذه الحقيقة بخليل أمير المؤمنين، والذي كم جلا ببهي جبينه من بهيم، وكم غدا الملك بحسن روائه ويمن آرائه يهيم، وكم أبرأ مورده العذب هيم عطاشٍ ولا ينكر الخليل إذا قيل عنه إبراهيم، ومن تشخص الأبصار لكماله يوم ركوبه حسيرة، وتلقي البنان سلاحها ذهلاً وهي لا تدري لكثرة الإيماء إلى جلاله إذا يبدو مسيره، والذي ألهم الله الأمة لجوده ووجوده صبراً جميلاً، وأتاهم من نفاسة كرمه وحراسة سيفه وقلمه تأميناً وتأميلاً، وعظم في القلوب والعيون بما من بره سيكون فسمته الأبوة الشريفة ولداً وسماه الله خليلاً.
ولما تحتم من تفويض أمر الملك إليه ما كان لوقته المعلوم قد تأخر، وتحين حينه فكمل زيادةً كزيادة الهلال حتى بادر تمامه فأبدر، اقتضى حسن المناسبة لنصائح الجمهور، والمراقبة لمصالح الأمور، والمصاقبة لمناجح البلاد والثغور، والمقاربة من فواتح كل أمر ميسور، أن نفوض إليه ولاية العهد الشريف بالسلطنة الشريفة المعظمة، المكرمة المفخمة المنظمة، وأن يبسط يده المنيفة لمصافحتها بالعهود، وتحكمها في العساكر والجنود، وفي البحور والثغور وفي التهائم والنجود، وأن يعدق ببسطها وقلمها كل قطع ووصل، وكل فرع وأصل، وكل نصر ونصل، وكل ما يحمي سرحاً، ويهمي منحاً، وفي المثيرات في الإعداء على الأعداء نقعاً وفي المغيرات صبحاً، وفي المنع والإطلاق، وفي الإرفاد والإرفاق، وفي الخميس إذا ساق، وفي السيوف إذا بلغت التراقي وقيل من راق، وفي الرماح إذا التفت الساق بالساق، وفي المعاهدات والهدن، وفي الفداء بما عرض من عرض وبالبدن بالبدن، وفيما ظهر من أمور الملك وما بطن، وفي جميع ما تستدعيه بواعثه في السر والعلن، وتسترعيه نوافثه، من كبت وكتب متفرقين أو في قرن، عهداً مباركاً عوذه وتمائمه، وفواتحه وخواتمه، ومناسمه ومياسمه، وشروطه ولوازمه، وعلى عاتق الملك الأعز نجاده وفي يد جبار السماوات قائمه، لا راد لحكمه ولا ناقض لبرمه، ولا داحض لما أثبته الأقلام من مكنون علمه.
ويزيده مر الليالي جدةً ** وتقادم الأيام حسن شباب

وتلزم السنون والأحقاب استيداعه للذراري والأعقاب، فلا سلطانٌ ذو قدر وقدرة، ولا ذو أمر وإمرة، ولا نائبٌ في مملكة قربت أو بعدت، ولا مقدم جيوش أتهمت أو أنجدت، ولا راعٍ ولا رعية، ولا ذو حكم في الأمور الشرعية، ولا قلم إنشاءٍ ولا قلم حساب ولا ذوو أنساب ولا ذوو أسباب، إلا وكلٌ داخلٌ في قبول هذا العهد الميمون، ومتمسكٌ بحكم كتابه المكنون، والتسليم لنصه الذي شهد به من الملائكة الكرام الكاتبون، وأمست بيعته بالرضوان محفوفة، والأعداء يدعونها تضرعاً وخيفة، وليشكروا الصنيع الذي بعد أن كانت الخلفاء تسلطن الملوك قد صار سلطانهم يقيم من ولاة العهد خليفةً بعد خليفة.
وأما الوصايا فأنت يا ولدنا الملك الأشرف أعزك الله بها الدرب، ولسماع شدوها وحدوها الطرب، الذي للغو لا يضطرب، فعليك بتقوى الله عز وجل فإنها ملاك سدادك، وهلاك أضدادك، وبها يراش جناح نجاحك، ويحسن اقتداء اقتداحك، فاجعلها دفين جوانح تأميلك ووعيك، ونصب عيني أمرك ونهيك، والشرع الشريف فهو قانون الحق المتبع، ومأمون الأمر المستمع، وعليه مدار إيعاء كل إيعاز، وبه يتمسك من أشار وامتاز، وهو جنة والباطل نار: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}، فلا تخرج في كل حال عن لوازمه وشروطه، ولا تنكب على معلقه ومنوطه. والعدل فهو مثمرٌ غروس الأموال، ومعمرٌ بيوت الرجاء والرجال، وبه تزكو الأعمار والأعمال، فاجعله جامع أطراف مراسمك، وأفضل أيام مواسمك، وسم به فعلك، وسم به فرضك ونفلك، ولا تفرد به فلاناً دون فلان، ولا مكاناً دون مكان، واقرنه بالفضل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}. وأحسن التخويل، وأجمل التنويل، وكثر لمن حولك من التموين التمويل، وضاعف الخير في كل مضاف لمقامك، ومستضيفٍ بإنعامك، حتى لا تعدم في كل مكان وكل زمان ضيافة الخليل، والثغور فهي للممالك مباسمها، وللمسالك مناسمها، فاجعل نواجذها تفتر عن حسن ثنايا الصون، ومراشفها شنبة الشفاه بحسن العون، ومنها، بما يحمي السرح منها، وأعنها، بما يدفع المكاره عنها، فإنها للنصر مقاعد، وبها حفظ البلاد من كل مارٍ من الأعداء مارد، وأمراء الجيوش فهم السور الواقي بين يدي كل سور، وما منهم إلا كل بطل بالنصر مشهور، كما سيفه مشهور، وهم ذخائر الملوك، وجواهر السلوك، وأخاير الأكابر الذين خلصوا من الشكوك، وما منهم إلا من له خدمات سلفت، وحقوقٌ عرفت وموات على استلزام الرعاية للعهود وقفت، فكن لجنودهم متحبباً، ولمرابعهم مخصباً، ولمصالحهم مرتباً، ولآرائهم مستصوباً، ولاعتضادهم مستصحباً، وفي حمدهم مطنباً، وفي شكرهم مسهباً، والأولياء المنصوريون الذين هم كالأولاد، ولهم سوابق أمت من سوابق الإيجاد، وهم من علمت استكانةً من قربنا، ومكانةً من قلبنا، وهم المساهمون فيما ناب، وما برحوا للدولة الظفر والناب، فأسهم لك منهم من احترامك نصيباً، وأدم لهم ارتياحك، وألن جماحك، وقوهم بسلاحك، تجد منهم ضروباً، وترى كلاً منهم في أعدائك ضروباً.
وكما أنك نوصيك بجيوش الإسلام، كذا نوصيك بالجيش الذي له جوار المنشآت في البحر كالأعلام، فهو جيش الأمواه والأمواج المضاف إلى الأفواج من جيش الفجاج، وهو الجيش السليماني في إسراع السير، وما سميت شوانيه غرباناً إلا ليجتمع بها لنا ما اجتمع لسليمان صلى الله عليه وسلم من تسخير الريح والطير، وهي من الديار المصرية على ثبج البحر الأسوار، فإن قذفت قذفت الرعب في قلوب الأعداء وإن أقلعت قلعت منهم الآثار، فلا تخله من تجهيز جيشه، وسكن طيش البحر بطيشه، فيصبح لك جيشان كلٌ منهما ذو كرٍ وفر، هذا في برٍ بحرٌ وهذا ببحرٍ بر، وبيوت العبادات فهي التي إلى مصلى سميك خليل الله تنتهي محاريبها، وبها لنا ولك وللمسلمين سرى الدعوات وتأويبها، فوفها نصيبها المفروض غير منقوص، ومر برفعها وذكر اسم الله تعالى فيها للأمر المنصوص، وأخواتها من بيوت الأموال الواجدات الواجبات، من حيث إنها كلها بيوت الله عز وجل: هذه للصلاة وهذه للصلات، وهذه كهذه في رفع المنار وجمع المبار، وإذا كانت تلك مما أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه فهذه ترفع ويذكر فيها اسمه حتى على الدرهم والدينار، فاصرف إليها اجتهادك فيما يعود بالتثمير، كما يعود على تلك بالتنوير، وعلى هذه بإشحانها بأنواع الصروف، كإشحان تلك باستواء الصفوف، فإنها إذا أصبحت مصونة، أجملت بحمد الله المعونة، وكفلت بالمؤونة وبالزيادة على المؤونة، فتكمل هذه لكل ولي دنياه كما كملت تلك لكل ولي دينه، وحدود الله فلا يتعداها أحد، ولا يرأف فيها ولدٌ بوالد ولاوالد بولد، فأقمها وقم في أمرها حتى تنضبط أتم الضبط، ولا تجعل يد الفتك مغلولةً إلى عنقها ولا تبسطها كل البسط، فلكلٍ من الجنايات والقصاص شرط شرطه الله وحدٌ حده فلا يتجاوز أحد ذلك الحد ولا يخرج عن ذلك الشرط، والجهاد فهو الديدن المألوف من حيث نشأ نشأ ونشأتك.. وفي ظهور الخيل، فمل على الأعداء كل الميل، وصبحهم من فتكاتك بالويل بعد الويل، وارمهم بكل شمري قد شمر من يده عن الساعد ومن رمحه عن الساق ومن جواده الذيل، واذهب لهم من كل ذلك مذهب، وأنر بنجوم الجرسان كل غيٍ وغيهب، وتكثر في غزوهم من الليل بكل أدهم، ومن الشفق، بكل أحمر وأشقر، ومن الأصيل بكل أصفر، ومن الصبح بكل أشهب، واستنهب أعمارهم واجعلها آخر ما يسلب وأول ما ينهب، ونرجو أن يكون الله قد خبأ لك من الفتوحات ما يستنجزها لك صادق وعده، وان ينصر بك جيوش الإسلام، في كل إنجاد وإتهام، وما النصر إلا من عنده، وبيت الحج المحجوج من كل فج، المقصود من كل نهج، فسير سبيله، ووسع له الخير وأحسن تسبيله، وأوصل من برك لكلٍ من الحرمين ما هو له، لتصبح ربوعه بذلك مأهولة، واحمه ممن يريد فيه بإلحادٍ بظلم، وطهره من مكس وغرم: ليعود نفعك على البادي والعاكف، ويصبح واديه وناديه مستغنين بذلك عن السحاب الواكف، والرعايا فهم للعدل زروع، وللاستثمار فروع، ولاستلزام العمارة شروع، فمتى جادهم غيثٌ أعجب الزراع نباتهم، ونمت بالصلاح أقواتهم، وصلحت بالنماء أوقاتهم، وكثرت للجنود مستغلاتهم، وتوفرت زكواتهم وتنورت مشكاتهم، والله يضاعف لمن يشاء.
هذا عهدنا للسيد الأجل، الملك، الأشرف، صلاح الدنيا والدين، فخر الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين، أعز الله تعالى ببقائه الدين، فليكن بعروته متمسكاً، وبنفحته متمسكاً، وليتقلد سيف هذا التقليد، ويفتح مغلق كل فتح منه بخير إقليد، وها نحن قد كثرنا لديه جواهره فدونه ما يشاء تحليته من تتويج مفرقٍ وتختيم أنامل وتسوير زند وتطويق جيد، ففي كل ذلك تبجيلٌ وتمجيد، والله تعالى يجعل استخلافه هذا للمتقين إماماً، وللدين قواماً، وللمجاهدين اعتصاماً، وللمعتدين انفصاماً، ويطفئ بمياه سيوفه نار كل خطب حتى يصبح كما أصبحت نار سميه صلى الله عليه وسلم برداً وسلاماً، إن شاء الله تعالى.
على ذلك كتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، عن المنصور قلاوون المتقدم ذكره، عهد ولده الملك الصالح علاء الدين علي وهذه نسخته: الحمد لله الذي شرف سرير الملك منه بعليه، وحاطه منه بوصيه، وعضد منصوره بولاية عهد صالحه، وأسمى حاتم جوده بمكارم حازها بسبق عديه، وأبهج خير الآباء من خير الأبناء بمن سمو أبيه منه بشريف الخلق وأبيه، وغذى روضه بمتابعة وسيمه وبمسارعة وليه.
نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر، وداركت بالبحر وباركت في النهر، وأجملت المبتدأ وأحسنت الخبر، وجمعت في لذاذة الأوقات وطيبها بين رونق الآصال ورقة البكر، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نلبس الألسنة منها في كل ساعةٍ ثوباً جديداً، ونتفيأ منها ظلاً مديداً، ونستقرب من الآمال ما يراه سوانا بعيداً، ونصلي على سيدنا محمد الذي طهر الله به هذه الأمة من الأدناس، وجعلها بهدايته زاكية الغراس، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من فهم حسن استخلافه بالأمر له بالصلاة بالناس، ومنهم من بنى الله به قواعد الدين وجعلها موطدة الإساس ومنهم من جهز جيش العسرة وواسى بماله حين الضراء والباس، ومنهم من قال عنه صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحبه الله ورسوله» فحسن الالتماس بذلك والاقتباس، وزاد في شرفه بأن طهر أهل البيت وأذهب عنهم الأرجاس، صلاةً لا تزال تتردد تردد الأنفاس، ولا تبرح في الآن اء حسنة الإيناس.
وبعد، فإن خير من شرفت مراتب السلطنة بحلوله، وفوفت ملابس التحكيم بقبوله، ومن تزهى مطالع الملك بإشراقه، وتتبادر الممالك مذعنةً لاستحقاقه، ومن يزدهي ملكٌ منصوره نصر الله بولده وولي عهده مكنةً بانيه، ومن يتشرف إيوان عظمته: إن غاب والده في مصلحة الإسلام فهو صدره وغن حضر فهو ثانيه، ومن يتجمل غاب الإيالة منه بخير شبل كفل ليثاً، ويتكفل غوث الأمة بخير وابلٍ خلف غيثاً، ومن ألهم الأخلاق الملوكية وأوتي حكمها صبياً، ومن خصصته الأدعية الشريفة بصالحها ولم يكن بدعائها شقياً، ومن رفعت به هضبة الملك حتى أمسى مكانها علياً، ومن هو أحق بأن ينجب الأمل وينجح، وأولى بأن يتلى له: اخلفني في قومي وأصلح، ومن هو بكل خيرٍ ملي، ومن إذا فوضت إليه أمور المسلمين كان أشرف من لأمورهم يلي، ومن يتحقق من والده الماضي الغرار، ومن اسمه العالي المنار، أن لا سيف غلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
ولما كان المقام العالي، الولدي، السلطاني، الملكي، الصالحي، العلائي عضد الله به الدين، وجمع إذعان كل مؤمن على إيجاب طاعته لمباشرة أمور المسلمين، حتى يصبح وهو صالح المؤمنين هو المرجو لتدبير هذه الأمور، والمأمول لصالح البلاد والثغور والمدخر في النصر لشفاء ما في الصدور، والذي تشهد الفراسة لأبيه وله بالتحكم: أو ليس الحاكم أبو علي هو المنصور؟، فلذلك اقتضت الرحمة والشفقة على الأمة أن ينصب لهم ولي عهد يتمسكون من الفضل بعروة كرمه، ويسعون بعد الطواف بكعبة أبيه لحرمه، ويقتطفون أزهار العدل وثمار الجود من كلمه وقلمه، وتستعد الأمة منه بالملك الصالح الذي تقسم الأنوار لجبينه وتقسم المبار من كرامته وكرمه.
فلذلك خرج الأمر العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، المنصوري، السيفي أخدمه الله القدر، ولا زالت الممالك تتباهى منه ومن ولي عهده بالشمس والقمر ان يفوض إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة المعظمة، ولايةً تامةً عامة شاملةً كاملة، شريفةً منيفة، عطوفةً رؤوفة، في سائر أقاليم الممالك وعساكرها وجندها، وعربها وتركمانها وأكرادها ونوابها وولاتها، وأكابرها وأصاغرها ورعاياها ورعاتها وحكامها وقضاتها، وسارحها وسانحها، بالديار المصرية وثغورها وأقاليمها وبلادها، وما احتوت عليه، والمملكة الحجازية، وما احتوت عليه، ومملكة النوبة، وما احتوت عليه، والفتوحات الصفدية والفتوحات الإسلامية الساحلية وما احتوت عليه، والممالك الشامية وحصونها، وقلاعها ومدنها، وأقاليمها وبلادها، والمملكة الحمصية، والمملكة الحصنية الأكرادية والجبلية وفتوحاتها، والمملكة الحلبية وثغورها وبلادها، وما احتوت عليه، والمملكة الفراتية، وما احتوت عليه، وسائر القلاع الإسلامية براً وبحراً، وسهلاً ووعراً، شاماً ومصراً، يمناً وحجازاً، شرقاً وغرباً، بعداً وقرباً، وأن تلقى إليه مقاليد الأمور في هذه الممالك الشريفة، وأن تستخلفه سلطنة والده خلد الله دولته، لتشاهد منه الأمة في وقت واحدٍ سلطاناً وخليفة، ولايةً واستخلافاً تسندهما الرواة، وتترنم بهما الحداة، وتعيهما الأسماع وتنطق بهما الأفواه، تفويضاً يعلن لكافة الأمم، ولكل رب سيفٍ وقلم، ولكل ذي علم وعلم، بما قاله صلى الله عليه وسلم لسميه رضي الله عنه حين أولاه من الفخار ما أولاه: «من كنت مولاه فعليٌ مولاه» فلا ملك إقليم إلا وهذا الخطاب يصله ويوصله، ولا زعيم جيشٍ إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله، ولا إقليمٌ إلا وكل من به يقبله ويقبله، ويتمثل بين يديه ويمتثله، ولا منبرٌ إلا وخطيبه يتلو فرقان هذا التقديم ويرتله.
وأما الوصايا فقد لقنا ولدنا وولي عهدنا ما انطبع في صفاء ذهنه، وسرت تغذيته في نماء غصنه، ولا بد من لوامع للتبرك بها في هذا التقليد الشريف تنير، وجوامع حيث يصير، وودائع ينبئك عنها ولدنا أعزنا الله ببقائه ولا ينبئك مثل خبير: فاتق الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وانصر الشرع فإنك إذا نصرته ينصرك الله على أعداء الدين وعداك، واقض بالعدل مخاطباً ومكاتباً حتى يستبق إلى الإيعاز به لسانك ويمناك، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر عالماً أنه ليس يخاطب غداً بين يدي الله عن ذلك سوانا وسواك، وانه نفسك عن الهوى حتى لا يراك الله حيث نهاك، وحط الرعية، ومر النواب بحملهم على القضايا الشرعية، وأقم الحدود، وجند الجنود، وابعثها براً بحراً من الغزو إلى كل مقام محمود، واحفظ الثغور، ولا حظ الأمور، وازدد بالاسترشاد بآرائنا نوراً على نور، وأمراء الإسلام الأكابر وزعماؤه، فهم بالجهاد والذب عن العباد أصفياء الله وأحباؤه، فضاعف لهم الحرمة والإحسان، واعلم أن الله اصطفانا على العالمين وإلا فالقوم إخوان، لاسيما أولوا السعي الناجح، والرأي الراجح، ومن إذا فخروا بنسبة صالحية قيل لهم: نعم السلف الصالح، فشاورهم في الأمر، وحاورهم في مهمات الأمور في كل سرٍ وجهر، وكذلك غيرهم من أكابر الأمراء الذين هم من تحايا الدول، وذخائر الملوك الأول، أجرهم في هذا المجرى، واشرح لهم بالإحسان صدراً، وجيوش الإسلام هم البنان والبنيان، فوال إليهم الامتنان، واجعل محبتك في قلوبهم بإحسانك إليهم حسنة المربى، وطاعتك في عقائدهم قد شغفها حباً: ليصبحوا بحسن نظرك إليهم طوعاً، وليحصل كل جيش منهم من التقرب إليك بالمناصحة نوعاً، والبلاد وأهلها فهم عندك الوديعة فاجعل أوامرك لهم بصيرة وسميعة.
وأما غير ذلك من الوصايا، فسنخولك منها بما ينشأ معك توءماً، ونلقنك من آياتها محكماً فمحكماً، والله تعالى ينمي هلالك حتى يوصله إلى درجة الإبدار، ويغذي غصنك حتى نراه قد أينع بأحسن الأزهار وأينع الثمار، ويرزقك سعادة سلطاننا الذي نعت بنعته تبركاً، ويلهمك الاعتضاد بشيعته، والاستنان بسنته، حتى تصبح كتمسكنا بذلك متمسكاً، ويجعل الرعية بك في أمن وأمان، حتى لا تخشى سوءاً ولا تخاف دركاً، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه إن شاء الله تعالى.
الوجه السادس فيما يكتب في مستند عهد ولي العهد بالسلطنة وما يكتبه السلطان في بيت العلامة وما يكتب في ذيل العهد:
أما ما يكتب في مستند العهد وما يكتبه السلطان في بيت العلامة، فكغيره من سائر الولايات من التقاليد وغيرها: وهو أن يكتب في المستند حسب المرسوم الشريف كما يكتب في المكاتبات التي هي بتلقي كاتب السر على ما تقدم ذكره في بابه، ويكتب السلطان في بيت العلامة اسمه واسم أبيه.
وأما ما يكتب في ذيل العهد وشهادة الشهود على السلطان بالعهد، فمثل أن يكتب: شهدت على مولانا السلطان الملك الفلاني العاهد المشار إليه فيه خلد الله ملكه، أو خلد الله سلطانه وما أشبه ذلك من الدعاء بما نسب إليه فيه من العهد بالسلطنة الشريفة، إلى ولده المقام الشريف العالي السلطاني، الملكي، الفلاني، وعلى المعهود إليه أعز الله أنصاره بقبول العهد المذكور، وكتب فلان بن فلان.
الوجه السابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به وكيفية كتابته وصورة وضعه في الورق:
أما قطع ورقه فمقتضى إطلاق المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف أن للعهود قطع البغدادي الكامل أنه يكتب في البغدادي أيضاً.
قلت: وهو المناسب لعظمة السلطنة، وشماخة قدرها، إذ الملك إلى ولي العهد آئل، وللدخول تحت أمره صائر، خصوصاً إذا كان المعهود إليه ولداً أو أخاً، وحينئذ فيكتب بمختصر قلم الطومار لمناسبته له، على ما تقدم في غير موضع.
وأما كيفية كتابته وصورة وضعها في الورق، فهو أن يخلي من أعلى الدرج قدر إصبع بياضاً ثم يكتب في وسطه بقلمٍ دقيق ما صورته الاسم الشريف كما يكتب في التقاليد وغيرها على ما سيأتي، ثم يبتدئ بكتابة الطرة بالقلم الذي يكتب به العهد من أول عرض الورق من غير هامش سطوراً متلاصقة إلى آخر الطرة، ثم يترك ستة أوصال بياضاً من غير كتابةٍ غير الوصل الذي فيه الطرة، ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تلحق أعالي ألفاته بالوصل الذي فوقه، بهامش عن يمين الورق بقدر أربعة أصابع أو خمسة مطبوقة، ثم يكتب تحت البسملة سطراً من أول العهد ملاصقاً لها، ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر كما في عهود الملوك عن الخلفاء، ثم يكتب السطر الثاني تحت بيت العلامة على سمت السطر الذي تحت البسملة، ويسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره، ويجعل بين كل سطرين قدر ربع ذراع بذراع القماش، فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم المستند، ثم الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والحسبلة، على ما تقدم في الفواتح والخواتم، ثم يكتب شهود العهد بعد ذلك.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثلاً له بالطرة التي أنشأها لذلك، وبالعهد الذي أنشأه القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر عن المنصور قلاوون بالعهد بالسلطنة لولده الملك الصالح علاء الدين علي وهي: هذا عهدٌ شريفٌ جليلٌ قدره، رفيعٌ ذكره، عليٌ فخره، متبلجٌ صبحه، ضويٌ فجره، من السلطان الأعظم الملك الظاهر، ركن الدنيا والدين بيبرس خلد الله تعالى سلطانه، ونصر جيوشه وأعوانه، بالسلطنة الشريفة لولده المقام العالي السلطاني، الملكي، السعيدي، بلغه الله تعالى فيه غاية الآمال، وحقق فيه للرعية ما يرجونه من مزيد الإفضال. على ما شرح فيه.
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش الحمد لله الذي شرف سرير الملك منه بعليه، وحاط منه بوصية، وعضد منصورة. بولاية عهد صالحه، وأسمى حاتم جوده. بمكارم حازها بسبق عديه، وأبهج خير. الآباء من خير الأبناء بمن سمو أبيه منه بشريف الخلق وأبيه، وغذى روضه بمتابعة وسيمه، وبمسارعة وليه. نحمده على نعمه التي جمعت إلى الزهر الثمر إلى أن يأتي إلى قوله: ولا يخاف دركاً ولا اعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
إن شاء الله تعالى كتب في سنة حسب المرسوم الشريف الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل النوع الرابع من العهود عهود الملوك بالسلطنة للملوك المنفردين بصغار البلدان ويتعلق النظر به من أربعة أوجه:
الوجه الأول في بيان أصل ذلك وأول حدوثه في هذه المملكة الى حين زواله عنها:
قد تقدم في المكاتبات في الكلام على مكاتبة صاحب حماة أن ذلك مما كان في الدولة الأيوبية، ثم في الدولة التركية في الأيام المنصورية قلاوون والأيام الناصرية محمد بن قلاوون ثم بطل ذلك، وذلك أن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب حين استولى على البلاد الشامية مع الديار المصرية بعد موت السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، فرق أقاربه في ولاية الممالك الشامية: كدمشق وحلب وحمص وغيرها واستمرت.
وكان صلاح الدين قد ولى حماة لا بن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، فبقيت بيده حتى توفي سنة سبع وثمانين وخمسمائة، فوليها بعد ابنه المنصور ناصر الدين محمدٌ وبقي بها حتى توفي سنة سبع عشرة وستمائة، فوليها ابنه الناصر قليج أرسلان فبقي بها إلى أن انتزعها منه أخوه المظفر في سنة ستٍ وعشرين وستمائة، وأقام بها إلى أن مات سنة ثلاثٍ وأربعين وستمائة. فوليها ابنه المنصور محمد، فبقي فيها إلى أن غلب هولاكو ملك التتار على الشام وقتل من به من بقايا الملوك الأيوبية، فهرب المنصور إلى مصر وأقام بها إلى أن سار المظفر قطز صاحب مصر إلى الشام، وانتزعه من يد التتار، وصار الشام مضافاً إلى مملكة الديار المصرية، فرد المنصور إلى حماة، فبقي بها حتى توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة، فولى المنصور قلاوون ابنه المظفر شادي مكانه، وكتب له بها عهداً عنه، فبقي بها حتى توفي سنة ثمان وتسعين وستمائةٍ في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون في سلطنته الثانية بعد لاجين، فولى الملك الناصر قراسنقر أحد أمرائه نائباً، فلما استولى غازان ملك التتار على الشام، كان العادل كتبغا بعد خلعه من سلطنة الديار المصرية نائباً بصرخد، فأظهر في قتال التتار قوةً وجلادة فولاه الملك الناصر حماة، وحضر هزيمة التتار مع الملك الناصر سنة اثنتين وسبعمائة ورجع إلى حماة فمات بها، فولى الملك الناصر مكانه سيف الدين قبجق نائباً، ثم نقله إلى حلب، وولى أسندمر كرجي نيابة حماة مكانه. ولما رجع السلطان الملك الناصر من الكرك نقل أسندمر كرجي من حماة إلى حلب، وولى المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الأفضل علي ابن المظفر عمر مكانه بحماة مكانه سنة ست عشرة وسبعمائة على عادة من تقدمه من الملوك الأيوبية، فبقي بها إلى أن توفي سنة ثنتين وثلاثين وسبعمائة، فولى الملك الناصر ابنه الأفضل محمداً مكانه، فبقي فيها حتى مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، واستقر في السلطنة بعد ابنه المنصور أبو بكر، وقام بتدبير دولته الأمير قوصون. فكان أول ما أحدث عزل الأفضل بن المؤيد عن حماة، وولى مكانه بها الأمير قطز نائباً. وسار الأفضل إلى الشام فأقام بها حتى توفي سنة ثنتين وأربعين وسبعمائة، وهو آخر من وليها من بني أيوب.
وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في مسالك الأبصار أن سلطانها كان يستقل بإعطاء الإمرة والإقطاعات، وتولية القضاة والوزراء وكتاب السر وكل الوظائف، وتكتب المناشير والتواقيع من جهته. ولكنه لا يمضي أمراً كبيراً في مثل إعطاء إمرة أو إعطاء وظيفةٍ كبيرة حتى يشاور صاحب مصر، وهو لا يجيبه إلا أن الرأي ما يراه. ومن هذا ومثله. قال: وإن كان سلطاناً حاكماً وملكاً متصرفاً فصاحب مصر هو المتصرف في توليةٍ وعزلٍ، من أراد ولاه ومن أراد عزله.
قلت: وكان للملكة بذلك زيادة أبهة وجمال: لكون صاحبها تحت يده من هو متصف باسم السلطنة، يتصرف فيه بالولاية والعزل. على أن هذا القسم لم يتعرض له المقر التقوى بن ناظر الجيش في التثقيف لخلو المملكة الآن عن مثله، وإنما أشار إليه المقر الشهابي بن فضل الله رحمه الله في التعريف حيث قال: وأما ما يكتب للملوك عن الملوك، مثل ولاة العهود والمنفردين بصغار البلدان فإنه لا تستفتح عهودهم إلا بالخطب. وذلك أن حماة كانت في زمنه بأيدي بني أيوب على ما تقدم ذكره، ولذلك قال في مسالك الأبصار: ومما في حدود هذه المملكة من له اسم سلطانٍ حاكمٍ وملكٍ متصرفٍ صاحب حماة.
الوجه الثاني في بيان ما يكتب في العهد:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: ما يكتب في الطرة:
وهو تلخيص ما يشتمل علي العهد، وهذه نسخته عهد كتب بها المقر الشهابي بن فضل الله عن الملك الناصر محمد بن قلاوون للملك الأفضل محمد ابن المؤيد عماد الدين إسماعيل بسلطنة حماة أيضاً، في رابع صفر سنة اثنتين وثلاثين وسبع مائة. وهو آخر من ملكها من بني أيوب، وهي: الحمد لله الذي أقربنا الملك في أهلة أهله، وتدارك مصاب ملكٍ لولا ولده الأفضل لم يكن له شبيهٌ في فضله، ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا ما يلحق به كل فرع بأصله، ويظهر به رونق السيف في نصله.
نحمده على ما أفاض بمواهبنا من النعم الغزار، وأدخل في طاعتنا الشريفة من ملكوك الأقطار، وزاد عطايانا فأضحت وهي ممالك وأقاليم وأمصار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أفلح من مات من ملوك الإسلام عليها، وحرض بها في الجهاد على الشهادة حتى وصل إليها، ومد يده لمبايعتنا على إعلائها فسابقت الثريا ببسط يدها، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي شرف من تسمى باسمه أو مت بالقربى إلى نسبه، وصرف في الأرض من تمسك من رعاية الأمة بسببه، وأكرم به كريم كل قومٍ وجعل كلمة الفخار كلمةً باقيةً في عقبه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما ناح الحمام لحزنه ثم غنى من طربه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فإننا ولله الحمد ممن نحفظ بإحساننا كل وديعة، ونتقبل لمن أقبل من الملوك على سؤال صدقتنا الشريفة كل ذريعة، ونتكفل لمن مات على ولائنا بما لو رآه في ولده لسره ما جرى، وعلم أن هذا الذي كان يتمنى أن يعيش حتى يبصر هذا اليوم ويرى، وكان السلطان الملك المؤيد عماد الدين قدس الله روحه هو بقية بيته الشريف، وآخر من حل في ملوكهم ذروة عزه ولم يزل في طاعتنا الشريفة على ما كان من الحسنى عليه، ومن المحاسن التي لقي الله بها ونور إيمانه يسعى بين يديه، فوهبنا له من المملكة الحموية المحروسة ما كان قد طال عليه سالف الأمد، ورسمنا له بها عطيةً باقيةً للوالد والولد، فلما قارب انقضاء أجله، وأشرف على ما قدمه إلى الله وإلينا من صالح عمله، لم يشغله ما به عن مطالعة أبوابنا الشريفة والتذكار بولده، وتقاضي صدقاتنا العميمة بما كان ينتظره قمره المنيف لفرقده، وورد من جهة ولده المقام الشريف، العالي، الولدي، السلطاني، الملكي، الأفضلي، الناصري، أعز الله أنصاره ما أزعج القلوب بمصابه في أبيه، وأجرى العيون على من لا نقع له على شيبه، فوجدنا من الحزن عليه ما أبكى كل سيفٍ دما، وأن كل رمح يقرع سنه ندما، وتأسفنا على ملك كاد يكون من الملائك، وأخٍ كريم أو أعز من ذلك، وسلطانٍ عظيم طالما ظهر شنب بوارقه في ثغور الممالك، وقمنا من الحزن في مشاركة أهله بالمندوب، ثم قلنا: لكم في ولده العوض ولا ينكر لكم الصبر يا آل أيوب.
فاقتضت مراسمنا المطاعة أن نرقيه إلى مقامنا العالي، ونعقد له من ألوية الملك ما تهتز به أطراف العوالي، ونركبه من شعار السلطنة بما تتجمل به مواكبه، وتمتد به عصائبه، وتميس من العجب وتمتد رقابها بالرقبة السلطانية جنائبه، تنزيهاً لخواطركم الكريمة علينا عن قول ليت، وتنويهاً بقدر بيتكم الذي رفع لكم إسماعيل به قواعد البيت: لما نعلمه من المقام العالي الملكي الأفضلي الناصري أمتع الله ببقائه من المناقب التي استحق بها أن يكون له عليكم الملك، والعزائم التي قلدت بها من الممالك ما تجول بها الجياد وتجري به الفلك، مع ماله من الكرم الذي هو أوفى من العهاد بعهده، والفضل الذي اتصل به ميراث الأفضلية عن جده، والجود الذي جرى البحر معه فاحمرت من الخجل صفحة خده، والوصف الذي لم يرض بالجوزاء واسطةً لعقده، والعدل الذي أشبه فيه أباه فما ظلم، والعلم الذي ما خلا به بابه من طلب: إما لهدًى وإما لكرم، ولم يخرج من كفالة والده إلا إلى كفالتنا التي أظلته بسحبها، وحلت سماء مملكته بشهبها، وخاطبناه كما كنا نخاطب والده رحمه الله بالمقام الشريف، وأجريناه في ألقابه مجرى الولد زيادةً له في التشريف، وصرفنا أمره لك ما كان لملوك أهله فيه تصريف، وسنرشده إلى أوضح طريقة، ويقوم مقام أبيه أو ليس الناصر هو أبو الأفضل حقيقة، ورسمنا بطلبه إلى ما بين أيدينا الشريف لنجدد له في نظرنا الشريف ما يتضاعف به سعوده، ويزداد صعوده، ويتماثل في هذا البيت الشاهنشاهي أبناؤه وآباؤه وجدوده: لتعمل معه صدقاتنا الشريفة ما هو به جدير، وترفعه إلى أعز مكانٍ من صهوة المنبر والسرير، وتكاثر به كل سلطان وما هو إلا جحفلٌ يسير، لتشيد به أركان هذا البيت الكريم، وتحيا عظامه وهي في اللحود عظمٌ رميم، وتعرف الناس أن عنايتنا الشريفة بهم تزيد على ما عهدوه لجدهم القديم من سمينا الملك الناصر القديم، فخرجت المراسيم الشريفة، العالية المولوية، السلطانية، الملكية، الناصرية: لازالت الملوك تتقلد مننها في أعناقها، ولا برحت الممالك من بعض مواهبها وإطلاقها، أن يقلد هذا السلطان الملك الأفضل أدام الله نصره من المملكة الحموية وبلادها، وأمرائها وأجنادها، وعربها وتركمانها وأكرادها، وقضاياها وقضاتها، ورعاياها ورعاتها، وأهل حواضرها وبواديها، وعمرانها وبراريها، جميع ما كان والده رحمه الله يتقلده، وبسيفه وقلمه يجريه ويجرده: من كل قليل وكثير، وجليلٍ وحقير، وفي كل مأمورٍ به وأمير، يتصرف في ذلك جميعه، ويقطع إقطاعاتها بمناشيره ويولي وظائفها بتواقيعه، وينظر فيها وفي أهلها بما يعلم أن له ولهم فيه صلاحاً، ويقيم من هيبة سلطانه ما يغنيه أن يعمل أسنةً ويجرد صفاحاً.
وليحكم فيها وفي من فيها بعدله، ويجمع قلوب أهلها على ولائه كما كانوا عليه لأبيه من قبله، وليكن هو وجنوده وعساكره أقرب في النهوض إلى مصالح الإسلام من رجع نفسه، وأمضى في العزائم مما يشتبه بها من سيفه وقبسه.
وأما بقية ما يملى من الوصايا، أو يدل عليه من كرم السجايا، فهو بحمد الله تعالى غريزةٌ في طباعه، ممتزجٌ به من زمان رضاعه، وإنما نذكره ببعض ما به يتبرك، ونحضه على اتباع أبيه فإنها الغاية التي لا تدرك، والشرع الشريف أهم ما يشغل به جميع أوقاته، وتقوى الله فما ينتصر الملك إلا بتقاته، والفكرة في مصالح البلاد والرعايا فإنها مادة نفقاته، واستكثار الجنود فإنهم حصنه المنيع في ملاقاته، ومبادرة كل مهم في أول ميقاته، وولايات الأعمال لا يعتمد فيها إلا على ثقاته، وإقامة الحدود التي لا ينصت في تركها إلى رقي رقاته، ورعاية من له على سلفه خدمةٌ سابقة، واستجلاب الأدعية الصالحة لنا وله فإنها للسهام مسابقة، وليمض في الأمور عزمه فإنه مذرب، ويبسط العدل والإحسان فإنه بهما إلينا يتقرب، وليأخذ بقلوب الرعايا فإنها تتقلب، وسيكرم وفادة الوفود ليقف بهم لنجاح مقاصدهم على بابٍ صحيح مجرب، وليجتهد في الجهاد، ويتيقظ والسيف مكتحل الجفن بالرقاد، ويهتم فإن الهمم العالية تقوم بها عوالي الصعاد، ويقوم البريد فإن في تقويمه بقاء الملك وعمارة البلاد، وليقف عند مراسمنا الشريفة لتهديه إلى سبيل الرشاد، ويحسن سلوكه ليطرب بذكره كل أحد ويترنم كل حاد، وغير هذا من كل ما عهدنا والده سقى الله عهده له سالكاً، ولأزمة أموره الجميلة مالكاً، مما لا يحتاج مما نعرفه من سيرته المثلى إلى شرحه، ولا يدل نهاره الساطع على صباحة صبحه، وليبشر بما جعل له من فضلنا العميم، ويتمسك بوعدنا الشريف أن هذه المملكة له ولأبنائه وأبناء أبنائه ما وجد كفءٌ من نسبهم الصميم، والله تعالى يمدك أيها الملك الفاضل بأفضل مزيده، ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك المؤيد من تأييده، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه، إن شاء الله تعالى.
الوجه الثالث فيما يكتب في المستند عن السلطان في هذا العهد وما يكتبه السلطان في بيت العلامة والحكم في ذلك على ما مر في عهود أولياء العهد بالسلطنة:
وهو أن يكتب في مستند العهد حسب المرسوم الشريف كما في غيره من الولايات، ويكتب السلطان في بيت العلامة اسمه من غير زيادة.
قلت: ولا يكتب فيه شهادةٌ على السلطان كما يكتب في عهود أولياء العهد بالسلطنة: لأن العهد بالسلطنة العظمى شبيهٌ بالبيعة، والشهادة فيها مطلوبةٌ للخروج من الخلاف، على ما تقدم في موضعه، والعهد بولاية سلطنة بعض الأقاليم شبيهٌ بالتقليد، والشهادة في التقاليد غير مطلوبة وذلك أن السلطنة لا تنتهي إلى ولي العهد إلا بعد موت العاهد، وربما جحد بعض الناس العهد إليه، وولاية بعض البلدان إنما تكون والسلطان المولي منتصبٌ فلا يؤثر الجحود فيها.
الوجه الرابع في قطع ورق هذا العهد وقلمه الذي يكتب به وكيفية الكتابة وصورة وضعها في الورق:
أما قطع الورق فمقتضى عموم قول المقر الشهابي بن فضل الله في التعريف إن للعهود قطع البغدادي الكامل أن يكتب في قطع البغدادي أيضاً.
قلت: والذي يقتضيه القياس أن تكون كتابته في الورق البغدادي لمعنى السلطنة، ولكن في قطعٍ دون القطع الكامل: لنقصان رتبة هذه السلطنة عن السلطنة العظمى، ألا ترى مكاتبة صاحب مملكة إيران كانت في زمن القان أبي سعيد تكتب في قطع البغدادي الكامل كما ذكره في التعريف وغيره، ومكاتبة صاحب مملكة بيت بركة المعروفة بمملكة أزبك من مملكة توران تكتب له في قطع البغدادي بنقص أربعة أصابع مطبوقة كما ذكره في التثقيف لانحطاط رتبته عن رتبة القان أبي سعيد، على ما تقدم ذكره في المكاتبات.
وأما قلمه الذي يكتب به، فينبغي إن كتب بقطع البغدادي الكامل أن يكون بمختصر قلم الطومار كما في غيره من العهود التي تكتب في القطع الكامل. وإن كتب في دون الكامل، فينبغي أن يكون القلم دون ذلك بقليل.
وأما صورة وضعه في الورق، فعلى ما مر في عهود أولياء العهد بالسلطنة من غير فرق: وهو أن يكتب في رأس الدرج بقلمٍ دقيقٍ الاسم الشريف، ثم يبتديء بكتابة الطرة في عرض الورق من غير هامش سطوراً متلاصقةً إلى آخر الطرة، ثم يخلي ستة أوصال بياضاً، ثم يكتب البسملة في أول الوصل الثامن بهامش قدر أربعة أصابع أو خمسةٍ مطبوقة، ثم يكتب سطراً من أول العهد ملاصقاً للبسملة، ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر على ما تقدم، ويكتب السطر الثاني على سمت السطر الذي تحت البسملة، ثم يسترسل في كتابة بقية العهد إلى آخره ويكون بين كل سطرين قدر ربع ذراع على قاعدة العهود. فإذا انتهى إلى آخر العهد كتب إن شاء الله تعالى ثم التاريخ، ثم المستند، ثم الحمد لله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الحسبلة. وتكون كتابته من غير نقط ولا شكل كسائر العهود.
قلت: ولو وسع ما بين سطوره ونقطت حروفه وشكلت: لما فيه من معنى التقاليد، لكان به أليق.
وهذه صورة وضعه في الورق، ممثلاً بالطرة التي أنشأتها في معنى ذلك، والعهد الذي أنشأه المقر الشهابي بن فضل الله الملك الأفضل محمد بن الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل آخر ملوك بني أيوب بها، وهي: هذا عهدٌ شريفٌ عذبت موارده، وحسنت بحسن النية فيه مقاصده، وعاد على البرية باليمن عائده. من السلطان الأعظم ناصر الدنيا والدين الملك الناصر أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد قلاوون خلد الله تعالى ملكه، وجعل الأرض بأسرها ملكه للمقام الشريف العالي السلطاني، الملكي، الأفضلي، محمد ابن المقام العالي المؤيدي إسماعيل أعز الله تعالى أنصاره، وأحمد آثاره، بالسلطنة الشريفة بحماة المحروسة وأعمالها، على أكمل العوائد وأتمها، وأجمل القواعد وأعمها، على ما شرح فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
هامش الحمد لله الذي أقربنا الملك في أهلة أهله، وتدارك مصاب ملك لولا ولده الأفضل لم. يكن لهم شبيهٌ في فضله، ووهب بنا بيت السلطنة من أبقى البقايا من يلحق به كل. فرع بأصله، ويظهر به رونق السيف في نصله. إلى أن يأتي إلى قوله في آخره: والله تعالى يمدك أيها الملك الأفضل بأفضل مزيده، ويحفظ بك ما أبقاه لك أبوك الملك. المؤيد من تأييده، والاعتماد على الخط الشريف أعلاه الله تعالى أعلاه.
إن شاء الله تعالى هامش كتب في سنة حسب المرسوم الشريف الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل.